إلي رحمة الله 

1– فضيلة الشيخ مجيب الله الندوي رحمه الله تعالى

1336-1427هـ = 1918-2006م

 

 

 

 

       ظلتُ أقرأ في الصحف نبأَ إصابة العالم الديني البارز الشيخ مجيب الله الندوي بالأمراض وعلاجه بمستشفى أهلي بمدينة لكهنؤ نحو شهرين متتابعين، مشفوعًا بالتماس من محبيه وذويه للدعاء لصحته وشفائه من الأمراض. وكان النبأ يحمل دائما تلويحًا باشتداد مرضه، مما جعل الأوساط الدينية في الهند تخاف على حياته، وتفقد قدرًا كبيرًا من رجائها نحو معافاته وعودته إلى الصحة الكاملة، ولاسيّما لأنه كان في نحو التسعين من عمره، فكان يعاني ما يعانيه أمثالُه من ذوي الأعمار الطويلة من الضعف الذي يسمح للأمراض أن تصطلح عليهم ولا تَدَعُهم يعودون إلى حالتهم الصحيّة الجيدة التي كانوا يؤدون فيها دورهم الحياتي .

       فلمّا قرأتُ نعيَ وفاته – رحمه الله – في الصحف لم أستغربه ؛ ولكنه آلمني كما آلم آلافًا من العلماء والمسلمين الذين كانوا يعرفون قيمته وقامته في العلم والدين والدعوة ، والتعليم والقيادة ، والتأليف والكتابة ، وتحرُّكَه لمصالح الأمة .

       لفظ – رحمه الله – أنفاسه الأخيرة في مستشفى «سحر» الأهلي بمدينة لكهنؤ يوم الجمعة 13/ ربيع الثاني 1427هـ الموافق 12/ مايو 2006م وحُمِلَ جثمانه إلى مدينة «أعظم جراه» حيث دُفِنَ في مقبرة مجاورة لبيته . رحمه الله وجعل الجنّة العليا مثواه .

       كان الشيخ مجيب الله الندوي أحدَ العلماء الأفاضل في الهند ، الذين جمعوا بين الاهتمامات المتعددة ، والخدمات المتنوعة ؛ فدَرَّسَ ، وكَتَبَ ، وأَلَّفَ ، وتحرّك في الساحة القيادية ، وساهم في المجالات السياسيّة ، وظلّ يباشر الصحافة الإسلامية، وأسس مدرسة جامعة باسم «جامعة الرشاد» بمدينة «أعظم جراه» أحسنت الصنع في تربية النشء ، وتخريج دفعات المؤهلين من الشباب .

       وكان يَصْدُر في جميع أعماله عن الإخلاص للدين ، والتألّم لحال الأمة ، والاهتمام بقضايا المسلمين في الهند ، والحرص على حلّها المثمر بكل ما يحمله من مؤهلات ، ويتمكّن منه من تسهيلات وإمكانيات ، ويهتدي إليه من توجيهات ونصائح . وقد كان التواضع شعارَه ، والعمل المتصل دثارَه ، والبساطة عدَّتَه ، والعفويّة في الحياة هويّتَه ، ونحافة الجسم إلى غزارة العلم وثقوب النظر وتفتح العقل ميزتَه بين الأقران . كلما لقيتُه وجدتُه كيانًا متحرّكاً، وهيكلاً عاملاً ، وجسمًا لايعرف القرار .

       كان يملك قلمًا رصينًا باللغة الأردية . وكان أسلوبه يمتاز بالجزالة والقوة والسلاسة، ويتحاشى عن الميوعة الأدبية والسخرية القصصيّة . وكان له تعمّق في الفقه ، وبصر بمسائله ، واطّلاع على أمهات كتبـه ، وتمهّرٌ في حلّ القضايا الفقهية التي تستجدّ ؛ فَتَنَاوَلَها بالكتابة والتأليف ، وجاءت بعضُ مُؤَلَّفَاتــه عديمةَ النظير في الطرح ، وغناء المواد ، وقيمة المضامين ؛ فأشاد بها كبار العلماء والكتاب .

       وساهم – رحمه الله – مساهمةً فعّالةً في معظم الحركات التي نُظِّمت من أجل استرداد مُسْتَحَقَّات المسلمين والمطالبة بحقوقهم أو إقامة سياج حول أرواحهم وممتلكاتهم التي ظلت مُسْتَهْدَفَةً من قبل المتطرفين المتعصبين من الهندوس من خلال الاضطرابات الطائفية التي فجّروها منذ ما بعد الاستقلال في أرجاء البلاد كلها : مدنها وقراها ، إلى جانب المساجد والآثار الإسلامية التي طالتها اعتداءاتهم أخيرًا بشكل رهيب جدًّا . فكان له نصيب في تأسيس مجلس التشاور الإسلامي؛ حيث ظلّ منضمًّا إلى الأنشطة التي نتج عنها والتي قام بها كبار القادة والساسة المسلمين من ذوي الغيرة الدينية ، أمثال القائد السيد محمود ، والمفكر الإسلامي المعروف الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ، والملا جان محمد ، والبندت سندر لال الهندوسي وغيرهم ، يقودهم الدكتور عبد الجليل الفريدي . وكان الشيخ مجيب الله لايكتفي بالمساهمة في المسيرات والتجولات في شتى أنحاء البلاد ، وإنما أثار الحماس الديني في قلب الشعب المسلم الهندي بكتاباته الحماسيّة التي كان ينشرها كافتتاحيات لمجلته الأردية الشهرية «الرشاد» التي كان يصدرها لسانَ حال لمدرسته «جامعة الرشاد» . وكتاباتُه أثـَّرت في القلوب ، وحملت المسلمين على النهوض من أجل نيل الحقوق بل نزعها من الأيدي الظالمة التي لم تعرف الإنصافَ ، وشَجَّعَتْهم ولم تَدَعْهُمْ يخلدون لليأس والإحباط ؛ وإنّما زَوَّدتهم بحماس جديد ، وانتعاش مزيد ، وهمّة لاتني ، وعزيمة لاتفتر .

       وكذلك كان له – رحمه الله – نصيبٌ يُذْكَر في المساعي الأساسيّة التي تمخضت عن تأسيس هيئة للأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند . وكان رائد هذه المساعي وقائدها والقائم بتخطيطها فكريًّا وبلورتها عمليًّا عالمان كبيران غيوران على الدين وهما: فضيلة الشيخ المقرئ محمد طيب المعروف بـ«حكيم الإسلام» رئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند سابقًا وفضيلة الشيخ منة الله الـرحماني أمير الشريعـة لولايتي بيهار وأريسه رحمهما الله . فكان الشيخ مجيب الله من أعضاء الهيئة التأسيسيين ، ورجالها النشيطين ، وعامليها المخلصين .

       وكان له أياد بيضاء في تأسيس الهيئة الملية التي نشأت فكرتُها في قلب فقيه الهند الكبير وعالمها البارز الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ، والتي جاء تأسيسُها نابعًا من الرأي العامّ الإسلامي في الهند بأنه لابدّ للمسلمين من جبهة سياسية يجتمعون فيها وينطلقون منها ويرفعون مطالبهم إلى الحكومة بقوة متماسكة وصوت مسموع .

       وكذلك كان – رحمه الله – من الرعيل الأول الذي انضمّ إلى ركب مجمع الفقه الإسلامي بالهند الذي أسسه الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي رحمه الله . وتكاتف معه سبّاقًا إلى تفعيل الحركة الدراسيّة للقضايا المستجدة في ضوء مبادئ وقواعد الفقه الإسلامي ، ولاسيّما الفقه الحنفي الذي هو أوسع وألين المذاهب الفكرية وأقدرها على استيعاب المستجدات ، وحلّ المشكلات الطارئة التي تطرحها الاكتشافات العلمية ، والتطورات التكنولوجية ، وثورة المعلومات .

       ومن رَأَي الشيخ مجيب الله الندوي ، وجده كيانًا نحيفًا للغاية ، ومجموعة من بعض اللحوم والعظام ، ولم يتأكد أن هذا الكيان الضئيل يَتَمَلأُ عملاً ، ويفيض نشاطاً ، ولا يعرف استجمامًا أو استراحة في طريق الحياة ، وإنما يواصل التأويبَ والإدلاجَ حتى يرد الموردَ ، ويصدر عنه مُتَرَوِّيًا .

       عرفتهُ لدى قدماته المتكررة خلال فترات غير متباعدة إلى دارالعلوم ندوة العلماء بمدينة لكهنؤ عندما كنتُ أستاذًا للغة العربية فيها في الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي . وقد تَعَرَّفَ عليَّ في مجالس الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله ، وكان يحبّني كثيرًا حبّ الكبير الحريص على إيثار مواهب الصغير التي يراها تتطلع أن تثور وتثمر . ولما أصبحتُ أستاذًا للغة العربيّة وآدابها ورئيس تحرير لمجلة «الداعي» العربية الشهرية الصادرة عن الجامعة الإسلامية الأهلية الأم في شبه القارة الهندية : دارالعلوم / ديوبند ازداد حبًّا وتقديرًا لي عندما رآني أُكْثِر من الكتابات الإسلامية باللغتين العربية والأردية . وكان يبدي إعجابـــه بها وتقـديره لها من خلال خطاباتـــه وعن طــريق المتوافدين من عنده إلى «ديوبند». وقد جعل بعض المرات بعض كتاباتي كلمةً افتتاحيةً لمجلته «الرشاد» حول الاحتلال الأمريكي للعراق وما أدى إليه من ويلات للمسلمين والعرب .

موجز من حياته :

الولادة : يوم 4/ يناير 1918م (19/ ربيع الثاني 1336هـ) .

موضع الولادة : «ـهوسى» (Ghosi) بمديرية اعظم جراه سابقًا حيث كان والده الشيخ حبيب الله يتولّى منصبًا في محطة الشرطة .

موطنه الأصلي : «برسرا» (Barsara) بمديرية «غازيبور» بولاية «يوبي» بالهند.

موطنه الثاني : ثم تَوَطَّنَ والده بخؤولة الشيخ مجيب الله كُسْمِيْ خُوْرْدْ (Kusmi Khurd) بمديرية «غازيبور» بولاية (يوبي) ؛ ولكن الشيخ مجيب الله أمضى معظم عمره منذ 1945م بمدينة «أعظم جراه» وبها «توطّن» وجعلها منطلقاً لأعماله ، وتحركاته الدينية والدعوية ، والتعليمية والكتابية.

اسم والده : الشيخ حبيب الله .

التعليم الابتدائي : اجتاز المراحل الابتدائية بكتاب قريته والمدرسة الرسمية بها .

       التحق عام 1935م (1353هـ) بمدرســـة مظهر العلوم بمدينة «بنارس» حيث أتم تحفيظ القرآن وقرأ الفارسية والأردية ومبادئ العربية إلى المرحلة المتوسطة.

التعليم العالي : انتسب عام 1939م (1358هـ) إلى دارالعلوم ندوة العلماء بلكهنؤ ؛ حيث مكث خمسة أعوام ، وتخرج فيها عام 1944م (1363هـ) وكان من أساتذته فيها المفكر الإسلامي الكبير الشيخ أبوالحسن الحسني الندوي رحمـه الله ، والشيخ شبلي الفقيه ، والشيخ حليم عطا ، والأديب العربي الكبير الشيخ محمد ناظم الندوي ، والشيخ مسعود عالم الندوي ، والشيخ عبد السلام القدوائي الندوي رحمهم الله تعالى.

مرانه على الكتابة : بعد تخرجه من ندوة العلماء تمرن على الكتابة والتأليف تحت رعاية العلاّمة السيد سليمان الندوي رحمه الله في مجمع «دارالمصنفين» بـ «أعظم جراه» بالهند . وألف كتبًا وحرر مقالات، وأعدّ دراسات ، مما صقل موهبته الكتابية وملكته التأليفية ، وخَرّجه كاتبًا قديرًا ومؤلفًا متقنًا .

الزواج : وتزوج رحمه الله – عام 1945م (1364هـ) ورزق عددًا من البنين والبنات ، وزينهم الله بالعلم والتوفيق للعمل .

المشوارالعملي : دَرَّسَ رحمه الله في أكثر من مدرسة ، ثم أسّس عام 1962م (1382هـ) مدرسة باسم «جامعة الرشاد» بمدينة «أعظم جراه». وظل يعمل فيها مشرفًا عليها ، ومدرسًا فيها ، ومجتهدًا في سبيل تطويرها .

إصدار مجلة : وأصدر عنها منذ سنوات طويلة مجلة أردية إسلامية جامعة باسم «الرشاد» نالت القبول والانتشار، وأقبل عليها القراء بنهم وشغف، ولاسيما افتتاحياتها التي كان يكتبها الشيخ رحمه الله بقلمه ، وكانت تعبر عن هوى الأمة المسلمة الهندية ، وآلام وأحلام الأمة المسلمة جمعاء .

بعض من مؤلفاته

       وألّف – رحمه الله – كثيرًا من الكتب باللغة الأرديــة تعالج الموضوعات الإسلامية الثابتة والساخنة . ويُعَدّ بعضها عديمة النظير في المكتبة الإسلامية الأردية. منها:

1-                       اجتهاد اور تبديلئ أحكام (الاجتهاد وتغير الأحكام)

2-                       الفقه الإسلامي .

3-                       المبادئ والتصورات الإسلامية العالمية.

4-                       أتباع التابعين .

5-                       العبادة والخدمة.

6-                       الفتاوى العالمكيرية ومؤلفوها.

7-                       التعليم الإسلامي.

8-                       قانون الأجرة الإسلامي .

9-                       الصحابة والتابعون من أهل الكتاب .

10-                تعليم القرآن الكريم ومكانته .

11-                الأسوة الحسنة .

12-                رياض الحديث .

13-                مساهمة النساء في خدمة الحديث .

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب 1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.